طوفان الأقصى- صمود في غزة، و صحوة للضمير العالمي

المؤلف: فهمي هويدي11.11.2025
طوفان الأقصى- صمود في غزة، و صحوة للضمير العالمي

أتفهم تمامًا مشاعر القلق التي تنتاب أبناء أمتنا تجاه التضحيات الجسيمة التي قدمها الشعب الفلسطيني جراء الأحداث المؤسفة التي وقعت في السابع من أكتوبر/تشرين الأول. ومع ذلك، لدي بعض الاعتراضات على الزعم بأن ما حدث كان محض مقامرة طائشة، قد تؤدي إلى نكبة جديدة تضاهي فاجعة عام 1948.

إنني لا أنكر الحزن العميق الذي يملأ القلوب، بل أراه شعورًا مبررًا ومنطقيًا، فمن ذا الذي يملك قلبًا سليمًا ولا يشعر بالأسى والألم وهو يرى مشاهد الموت والدمار التي حلت بغزة وأهلها؟ ومع ذلك، أتحفظ بشدة على التفسيرات التي يروج لها البعض بشأن تكييف ما جرى.

أرى أن هناك مغالطات واضحة في مقارنة النتائج المترتبة على الوضع الحالي بما حدث في حرب 1948. لا أجد أوجه تشابه تذكر بين الحالتين، باستثناء ثلاثة جوانب رئيسية؛ أولها هو فظاعة الجرائم الإسرائيلية التي استهدفت التنكيل بالفلسطينيين وتهجيرهم قسرًا من ديارهم وأراضيهم بعد سلبها ونهبها.

أما الجانب الثاني فهو التشابه في دور القوى الدولية؛ فكما كانت بريطانيا هي المحرك الرئيسي لإقامة دولة إسرائيل في عام 1948 (حيث كانت فلسطين تحت الانتداب البريطاني)، فإن الولايات المتحدة الأمريكية لا تزال شريكة لإسرائيل في عدوانها المستمر. أما وجه الشبه الثالث، فيكمن في أن كلا المواجهتين قد وقعتا على أرض فلسطين وليس خارجها.

*

عند المقارنة بين نكبة 1948 والحرب الدائرة في غزة، يجب أن ندرك أن الأخيرة قد شارفت على شهرها السادس، وبالتالي فإن التحذيرات من "نكبة" جديدة ترتكز على احتمالات قائمة، ولكن يجب أن نتذكر أن الحرب لا تزال مستمرة ولم تُحسم نتائجها بعد.

ولا ننسى أن نسجل ملاحظة هامة، وهي أن حرب 1948 كانت بين جيوش ست دول عربية (مصر، الأردن، العراق، سوريا، لبنان، السعودية) ومليشيات صهيونية متعددة.

أما الحرب الحالية، فهي بين المقاومة الفلسطينية، وعلى رأسها حماس والجهاد الإسلامي، بالإضافة إلى فصائل أخرى من القوى الوطنية. تخوض هذه المجموعات معركة شرسة ضد جيش دولة إسرائيل المدعوم بقوة من الولايات المتحدة، بالإضافة إلى دعم من بريطانيا وألمانيا، والذين فاق قصفهم لغزة في كثافته حروب أوكرانيا وسوريا، بل والحرب العالمية الثانية.

الملاحظة الأخرى الجديرة بالذكر، هي أن المقاومة الفلسطينية، التي يتهمها البعض بالمغامرة غير المحسوبة، قد ولدت من رحم مجتمع رازح تحت الحصار طوال سبعة عشر عامًا. هؤلاء المحاصرون قاموا بحفر الأنفاق تحت الأرض التي تمتد لمئات الكيلومترات، وتدربوا في البر والبحر، وحصلوا على أسلحتهم وصنعوها، وأقاموا شبكات الاتصالات والاستخبارات، مستفيدين من الخبرات الداخلية والخارجية في أدق التفاصيل وأعقدها.

كل هذا تحقق خلال سنوات من الإعداد الدقيق، بالرغم من أن كل شيء في القطاع كان خاضعًا للمراقبة الشديدة ليلًا ونهارًا، وبإمكانيات إسرائيلية متطورة للغاية بتمويل أمريكي ضخم، فضلًا عن شبكة واسعة من الجواسيس والعملاء.

بهذه العناصر، فاجأت المقاومة الفلسطينية العدو من البر والبحر والجو، وأفقدته توازنه وصوابه في السابع من أكتوبر/تشرين الأول. ولا يزالون يقاتلون ويهاجمون ويهددون معاقله منذ ما يقرب من ستة أشهر، مما يعني أن الادعاء بأنهم أقدموا على مغامرة غير محسوبة هو ظلم وإجحاف بحقهم. وإذا كان الإنصاف يقتضي تقدير جهودهم، فإنه يفرض علينا أيضًا الإشادة ببسالة وصمود شعب غزة الذي احتضنهم وساندهم وأظهر تقديره لجهودهم.

وإذا أردنا المصارحة أكثر في إنصاف الوطنية الفلسطينية، فيجب أن نعترف بأن هؤلاء المقاتلين الشجعان، بالرغم من الحصار وظروفهم المتواضعة وإمكانياتهم المحدودة، قد أبلوا بلاءً حسنًا طوال الأشهر الستة الماضية، بشكل فاق ما حققته ستة جيوش عربية في عام 1948، في حين أن غيرهم تعرض للانهيار في غضون ساعات.

*

ما زلت متمسكًا برأيي الذي حذرت فيه من إطلاق الأحكام المتسرعة أثناء اشتعال المعركة؛ لأن تحقيق المكاسب أثناء القتال لا يكفي للتقييم الصحيح، إذ من الوارد أن تكسب جولة في المعركة، ولكنك تخسر الحرب في نهاية المطاف.

لذلك، يجب انتظار انتهاء القتال وتقييم الآثار العسكرية والسياسية المترتبة على نتائجه، فهي التي ستحدد من هو الرابح ومن هو الخاسر. ومع ذلك، فإن أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول كان لها أصداء جانبية مهمة في المجالين السياسي والعام، ويمكن اعتبارها ضمن الأهداف التي حققتها المفاجأة الفلسطينية.

وهي التي لا أمل من التذكير بها، مثل استعادة القضية الفلسطينية من براثن النسيان التي كادت تطمس معالمها بمرور الوقت، وتحطيم أسطورة القوة التي لا تقهر، وفضح الجرائم الإسرائيلية أمام الرأي العام العالمي، وكشفها أمام محكمة العدل الدولية لأول مرة، والتي وافقت على دعوى ضلوعها في جريمة الإبادة الجماعية التي قدمتها جنوب أفريقيا، وتضامنت معها دول أخرى (وليس من بينها دول عربية للأسف).

في الوقت ذاته، أظهرت عملية "طوفان الأقصى" أيضًا التصدعات الداخلية في المجتمع الإسرائيلي بين العسكريين والسياسيين من جهة، والعلمانيين والمتطرفين الذين يصفونهم بالأصوليين من جهة أخرى، في مواجهة التداعيات الصادمة على وجود إسرائيل، والتي أثارتها المقاومة الفلسطينية الباسلة.

*

وخلاصة القول، لدينا زاويتين للنظر في الأحداث الجارية. زاوية ترى الموت والدمار وتلوح بالنكبة، وزاوية أخرى ترى الصمود والإنجاز وتلوح بالحلم والأمل. الأولى تغذي شعورنا باليأس والظلم والقهر، والثانية توقظ فينا الاعتزاز بالكرامة والحق في الانتماء إلى الإنسانية التي تنعم بالحرية والاستقلال.

صحيح أنه يجب ألا نتجاهل أو نهون من شأن الموت والخراب، على الرغم من أن فداحة الثمن تصبح مفهومة كلما كان الهدف أسمى. وفي الوقت ذاته، فإن الإنصاف يفرض علينا أن نرصد بعناية الأهداف التي تحققت، بثقة وأمل في أن الحق سينتصر في النهاية.

يجب ألا نستسلم للآلام، أو نتمسك بالأوهام والأحلام. ويساعدنا في ذلك القراءة المتأنية للواقع. وهذا يقودنا إلى عدة استنتاجات، أهمها أمران: الأول، أن الفلسطينيين يخوضون المعركة وحدهم بمعزل عن الأنظمة العربية. والأمر الثاني يتمثل في حياد النظام العربي، حيث لم تستخدم الدول العربية أيًا من قدراتها، سواء لمحاولة وقف الحرب أو للضغط بأي وسيلة لكبح العدوان الإسرائيلي، وهو ما يعتبر نقطة ضعف في الموقف الفلسطيني، سواء سياسيًا أو اقتصاديًا أو دبلوماسيًا.

أما الاستنتاج الأخير، فهو أن المقاومة الفلسطينية لا تزال ثابتة الجذور، وتمتلك بعض أوراق القوة التي تمكنها من تحدي الإرادة الإسرائيلية المدعومة أمريكيًا، مما يعني في الأيام القادمة استبعاد الهزيمة الساحقة للفلسطينيين أو الانتصار الكامل لإسرائيل.

فالقتل والتدمير والتهجير لن يمحو الحلم الفلسطيني الذي ازداد رسوخًا وقوة. والغطرسة الإسرائيلية – وتوسع المستوطنات غير الشرعية – له حدود، ولم يعد من السهل تبريرها بعد أن انكشفت الحقائق أمام أنظار الكثيرين في العالم.

*

لا مناص من الاعتراف بأن الوضع قد تغير كثيرًا منذ عام 1948. وطوال السنوات الماضية، ظلت الوطنية الفلسطينية تحاول القيام بواجبها في ظل مختلف الظروف، حتى كانت عملية "طوفان الأقصى" أحدث تجلياتها. وإذا كانت نكبة 1948 قد وقعت في ظل حضور عربي رمزي، فإن استعادة الحديث عنها في الوقت الراهن تدعونا إلى التفكير مليًا في مدى مسؤولية الغياب أو الخذلان العربي عن ذلك الذي لا نتمناه، ونسأل الله أن يحفظنا من شره.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة